في بيئة مشبعة بالمحتوى، قد تبدو الرسائل الجيدة كقطرات في محيط. كثير من المؤسسات تُصيغ رسائلها بعناية، تستند إلى بيانات موثوقة، وتُقدّم بلغة سليمة ومؤثرة. ومع ذلك، تمر تلك الرسائل دون أن تترك أثرًا حقيقيًا. هذا لا يعني بالضرورة أن المحتوى ضعيف، بل قد يشير إلى خلل أعمق: غياب ما يمكن تسميته بـ”الهندسة الاتصالية”.
الرسالة ليست نصًا فقط، بل تجربة كاملة تمر عبر الزمن والسياق والتوقيت والاستعداد النفسي والمعرفي للمستقبل. عندما تتجاهل المؤسسة هذه الأبعاد، فإنها تفقد السيطرة على كيفية تلقّي الرسالة، حتى لو كانت في ظاهرها منطقية وسليمة.
فالتوقيت مثلًا، ليس تفصيل هامشي. المحتوى القوي في لحظة خاطئة يمكن أن يتحول إلى عبء، أو يُساء فهمه، أو ببساطة يُتجاهل. الجمهور اليوم لا ينتظر الرسائل، بل يتلقاها ضمن تدفق هائل من المعلومات، ويُعيد تفسيرها ضمن مزاجه اللحظي وتوقعاته وخلفياته. أحيانًا، يكون الصمت المؤقت أقوى من أي إعلان إذا لم يكن التوقيت مناسبًا.
كذلك، السياق ليس إطارًا محايدًا تُوضَع فيه الرسائل، بل جزء من معناها. الرسالة نفسها يمكن أن تُفهم بطرق مختلفة كليًا إذا أُطلقت في بيئة ثقافية أو سياسية أو إعلامية معينة، أو من جهة لها تاريخ مؤسسي يُعزز أو يُضعف صدقيتها. من هنا، فإن تجاهل السياق يجعل الرسالة عمياء، حتى لو كانت لغويًا بصيرة.
وهناك أيضًا مسألة التراكم الاتصالي. في بعض الحالات، تفقد الرسائل أثرها لا لأنها ضعيفة، بل لأنها جاءت بعد رسائل كثيرة سابقة لم تغيّر شيئًا. الجمهور لا يتعامل مع الرسائل كمحتوى منفصل، بل كامتداد لمسار كامل من الخطاب المؤسسي. تكرار الرسائل دون تغيير حقيقي في السلوك أو اللهجة أو الأولويات يُحوّل الخطاب إلى ضجيج خلفي مألوف… وغير مهم.
ومن الأخطاء الشائعة أيضًا أن يتم التعامل مع الجمهور على أنه متجانس. الرسالة العامة للجميع قد تكون موجهة، في الحقيقة، إلى لا أحد. التوجيه الفعّال يبدأ بفهم الشرائح النفسية والسلوكية للجمهور، لا فقط الفئات الديموغرافية. معرفة من يحتاج أن يسمع، وما الذي يُحرّكه، هو مفتاح لوصول الرسالة إلى حيث يجب أن تصل.
وأخيرًا، هناك الرسائل غير المنطوقة. ما لا يُقال أحيانًا أهم مما يُقال. الصمت، التأجيل، التردّد، طريقة التقديم، لهجة الخطاب، كلها رسائل بحد ذاتها. المؤسسات التي تهمل هذه الطبقات الخفية تفقد السيطرة على تفسير رسائلها، وتترك المجال للجمهور لملء الفراغات بما يشاء.
المحتوى الجيد لا يكفي. الرسائل تحتاج إلى هندسة واعية تأخذ في الاعتبار ما هو أبعد من النص: التوقيت، والسياق، والتراكم، والتلقي، والصمت.
في وُصول، نؤمن أن الاتصال الاستراتيجي لا يُبنى بجملة سليمة، بل بمنظومة تفكير شاملة تدرك أن ما لا يُقال أحيانًا أقوى مما يُقال.