المؤسسات التي تتحدث كثيرًا ولا تُسمَع: مشكلة الحجم أم المعنى؟

تبدو بعض المؤسسات وكأنها حاضرة دائمًا. منشورات يومية، محتوى متدفق، رسائل تملأ المنصات. ومع ذلك، لا أحد يتوقف عندها. لا أثر، لا صدى، ولا ذاكرة تبقى لما قيل. المفارقة أن المشكلة لا تكمن في غياب الجهد الاتصالي، بل في غياب المعنى الذي يُنظم هذا الجهد ويمنحه اتساقًا ومغزى.
الاتصال ليس في عدد المرات التي نتكلم فيها، بل في البنية التي تجمع ما نقوله ضمن سياق مفهوم. كثير من المؤسسات تُنتج المحتوى وكأنها تُطفئ حرائق يومية، أو تملأ جداول نشر، لا كمن يُقدم سردًا تدريجيًا يبني إدراكًا متماسكًا على المدى الطويل. هناك فرق كبير بين أن تقول شيئًا، وبين أن تبني رؤية متكاملة تنقل جمهورك من موقع إدراكي إلى آخر.
التكرار لا يخلق أثرًا ما لم يكن مبررًا ومركبًا. نشر نفس الرسائل بعبارات مختلفة لا يعني أننا نُعزز الرسالة، بل قد نُفرغها من معناها. الرسائل التي لا تتطور، ولا تُفاجئ، ولا تعكس تغيرًا حقيقيًا في سلوك المؤسسة، تتحول بسرعة إلى ضجيج مألوف. والمؤسسة التي تُشبع جمهورها بمحتوى بلا توجيه فكري واضح، تخاطر بأن تصبح غير مرئية، رغم كثافة ظهورها.
التحدي الأكبر لا يكمن في القدرة على إنتاج المحتوى، بل في القدرة على بناء منطق اتصالي. أي أن تكون لدى المؤسسة خريطة ذهنية تربط كل رسالة بهدف، وكل حملة بسياق، وكل ظهور بمرحلة محددة من علاقة المؤسسة مع جمهورها. غياب هذا المنطق يجعل الاتصال مجرد حراك إخباري… لا استراتيجية.
الجمهور لم يعد ساذجًا. يميز بين من يتكلم لأن عليه أن يفعل، ومن يتكلم لأنه يحمل موقفًا، أو يملك رؤية، أو يسعى إلى تشكيل وعي. وفي زمن السرعة والتشتت، لم يعد الناس بحاجة إلى المزيد من المحتوى، بل إلى معنى يمكن أن يُبنى عليه فهم، أو ثقة، أو سلوك.
المؤسسات التي تصنع الفرق لا تتكلم كثيرًا، بل تعرف متى تصمت، ومتى تقول، وماذا تترك دون قول ليفهم ضمنيًا. فالصمت في لحظات معينة أكثر تعبيرًا من بيان صحفي، والإشارة الذكية قد تكون أقوى من مئة منشور مكرر.
في وُصول، نُساعد المؤسسات على إعادة بناء تفكيرها الاتصالي من الداخل. لا نسأل: ما الذي يجب أن يُقال؟ بل: لماذا نقوله؟ ومن يحتاج أن يسمعه؟ وما الأثر المتوقع منه؟ لأننا نؤمن أن الأثر الحقيقي لا يُصنع بالحضور الكثيف، بل بالبصمة الذكية

شارك المقال

جميع الحقوق محفوظة لشركة وصول 2024

طوّر بواسطة: تِقن عربية

Scroll to Top