لطالما تم التعامل مع الاتصال المؤسسي كأداة موجّهة للخارج، كأن الجمهور هو الطرف الوحيد الذي ينبغي مخاطبته والتأثير عليه. لكن هذه النظرة تختزل الاتصال وتفصله عن أحد أهم أدواره: بناء الإدراك الداخلي، ليس فقط في أذهان الجمهور، بل داخل المؤسسة نفسها.
الاتصال، في جوهره، ليس مجرد وسيلة لإيصال صورة، بل أداة لتشكيل الوعي. يبدأ من اللغة التي نستخدمها في الاجتماعات، في البريد الداخلي، في الوثائق، وفي صياغة القرارات. كيف نتحدث عن أنفسنا؟ كيف نصف موظفينا؟ كيف نبرر قراراتنا؟ هذه الأسئلة تصنع سردية تتشكل داخل المؤسسة قبل أن يقرأها أي جمهور خارجي.
والجمهور الخارجي لم يعد يتلقّى الرسائل فقط من الحملات. بل يراقب تصرف المؤسسة، لغتها، قراراتها، وحتى صمتها. فالثقة لا تُبنى من إعلان أو منشور على منصة، بل من اتساق مستمر بين ما يُقال، وما يُفعل، وما يُسكت عنه. المؤسسات التي تفكر في “صورتها” دون أن تبني “هويتها” تسقط في فجوة يصعب ردمها لاحقًا، لأن الهوية لا تُستعار، بل تُبنى تدريجيًا من الداخل.
حين تفكر المؤسسة في استراتيجيتها الاتصالية، يجب أن تتوقف عن سؤال: “كيف نبدو في نظر الآخرين؟”، وتبدأ بسؤال أكثر جوهرية: “من نحن فعلًا؟”. الاتصال هنا لا يصبح مجرد قناة، بل مرآة. لا نستخدمه لخلق انطباع، بل لاختبار الاتساق بين من نعتقد أننا عليه، وما نفعله فعلًا، وما يراه الآخرون فينا.
وحين نستخدم الاتصال كأداة لإعادة بناء الإدراك، فإن كل عبارة تُكتب، وكل بيان يُنشر، وكل خطاب داخلي يُرسل، يصبح فرصة لتأكيد المعنى أو إعادة تصحيحه. لا يجب أن يكون الاتصال تابعًا لما تقرره الإدارة فقط، بل شريكًا في صناعة المعنى المؤسسي.
المؤسسة التي تعرف كيف تدير خطابها الداخلي، وتُحسن اختيار لغتها، وتضبط نغمة حضورها، ستكون أكثر قدرة على التأثير في الخارج دون أن ترفع صوتها. لأنها ببساطة تتكلم من مركز متماسك، لا من فراغ تسويقي.
في وُصول، لا ننظر إلى الاتصال كحملة تبدأ وتنتهي، بل كنظام إدراك مستمر. الاتصال ليس طبقة خارجية تُجمّل المؤسسة، بل طبقة داخلية تُنضجها، تُشكّلها، وتُعرّفها من جديد. وعندما يُفهم بهذه الطريقة، يصبح الاتصال واحدًا من أصدق أدوات التغيير المؤسسي، وأكثرها صمتًا… وعمقًا